عبد المغيث مدير المنتدى
عدد الرسائل : 1410 العمر : 29 المزاج : متفهم نقاط التميز : 3820 تاريخ التسجيل : 14/11/2008
| موضوع: أما آن لنا أن نهاجر .. الثلاثاء 22 ديسمبر - 6:17:54 | |
| بسم الله الرحمان الرحيم
|
|
أما آن لنا أن نهاجر؟ |
|
|
مضت سنة الله في الكون على مر التاريخ أن تكون القوى المعنوية هي الحافظة للمكاسب والقوى المادية؛ فكلما كانت الأمة غنية في خلقها وعقيدتها السليمة ومبادئها الاجتماعية الصحيحة فإن سلطانها المادي يغدو أكثر تماسكًا، وأرسخ بقاءً ، وأمنع جانبًا ، وكلما كانت فقيرة في خلقها مضطربة في عقيدتها ، تائهة أو جانحة في نظمها ومبادئها ، فإن سلطانها المادي يغدو أقرب إلى الاضمحلال ، ومكتسباتها المادية أسرع إلى الزوال(1).
ومن هنا كان حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على حماية تلك القوى المعنوية وتعميقها في قلوب أصحابه ، مهما كلفهم ذلك من تكاليف ، ومهما حملهم من تضحيات.
إن مفارقة الأهل والأوطان- كرهًا وظلمًا- ابتلاء قاسٍ واختيار رهيب ، لكنه يغدو مهينًا يسيرًا إذا كان ثمن التمتع بالأهل والوطن ضياع العقائد, وسقوط القيم, والتضحية بالمبادئ السامية, والأخلاق العالية.
إننا بالعقيدة الصحيحة, والمبادئ السليمة, نبني أعظم أمة, وننشئ أسعد الأوطان, لكن الوطن وحده لا ينشئ للعاطلين الفارغين عقيدة, ولا يمنحهم قيمة ، وعندما يترك أصحاب العقيدة, أوطانهم إبقاءً لعقيدتهم وفرارًا بدينهم فإنهم يكونوا قد آثروا ما يبقى على ما يفنى ، ولم يستبدلوا الذي أدنى بالذي هو خير.
وإذا كان من معاني الهجرة, الخروج من أرض إلى أرض, فإن من معانيها أيضًا الترك والقطع ، يقول صاحب اللسان: "الهجر ضد الوصل ، هجره هجرًا وهجرانًا: صرمه وفي الحديث: " لا هجرة بعد ثلاث"؛ يريد به الهجر ضد الوصل" (2).
وإذا كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم قد واكبها انتقال من مكان إلى مكان, فإن ذلك راجع إلى طبيعة المرحلة واحتياج الدعوة إلى ذلك الانتقال ، لكننا عندما نقرأ قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"(3).
ندرك أن الجانب الأعظم من الهجرة اليوم, ينصب على الهجرة القبلية, وانعقاد النية على إحداث انقلاب نفسي وفكري ووجداني, إنها تعني الاستجابة الخاشعة الطائعة لقول الله الخالق الحكيم سبحانه: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) (الذاريات).
وتتحول الهجرة إلى فريضة شرعية وضرورة بشرية, إذا علمنا أنها الجسر الذي تعبر به الأمة من حال ضعفها إلى قوتها, ومن ذلها إلى عزتها, ومن هونها إلى السيادة على العالمين.
فالهجرة التي هي الترك والتغيير والقطع هي سبيلنا الوحيدة ، ووسيلتنا الأكيدة إلى تغيير واقع الأمة والانتقال بها من حال إلى حال. وهو ما نفهمه من قوله تعالى: ﴿لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).
ومن يتأمل في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك بداهة أنها سبقت بمرحلة من التدريب النفسي, والإعداد الروحي, والتربية الإيمانية العميقة, امتدت إلى ثلاثة عشر عامًا, عاني المسلمون خلالها ألوانًا من الشدائد والمحن، وتجرعوا مرارة التعذيب والترهيب, وذاقوا آلام التوجيع والحصار، فكانت تلك التربية الإيمانية, التي ربطت قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخالقها, هي الزاد الذي منحهم الثقة في النصر, وأمدهم بالصبر على الأذى، وأعانهم على تحمل أعباء الطريق.
وهل كان بإمكان رجل مثل صهيب بن سنان الرومي- صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن يتنازل عن ماله وأهله وداره, إلا وهو يدرك أن صفقته مع الله رابحة, وأنه خير بين العاجلة والآجلة ، فاختار ما يبقى على ما يفنى, بعد أن تعلم في مدرسة النبوة قول ربه سبحانه: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) (النحل).
فقد روت كتب السيرة أنه: "لما أراد صهيب الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا, فكثر مالك عندنا, وبلغت الذي بلغت, ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني قد جعلت لكم مالي, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ربح البيع صهيب.. ربح البيع صهيب"(4).
وفي صهيب نزل قول الله سبحانه: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) (البقرة).
ولم يكن صهيب وحده الذي عانى في سبيل هجرته ما عانى, إنما عانى كل واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بصورة من الصور، وبشكل من الأشكال.
فهذه أم سلمة- رضي الله عنها- تحكي بعض ما نزل بها عند الهجرة فتقول: "لما أجمع أبو سلمة على الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حملني عليه, وحمل معي ابني سلمة في حجري, ثم خرج بي يقود بعيره، فلما رأته رجال بن المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها, أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه, وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة فقالوا: لا والله نترك ابننا عندها إذا نزعتموها من صاحبنا قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتي خلعوا يده, وانطلق به بنو عبد الأسد, وحبسني بنو المغيرة عندهم, وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة, ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى مر بي رجل من بني عمي, فرأى ما بي فرحمني, فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة, ففرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها، قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت، ورد بنو عبيد الأسد إليَّ ابني, فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري, ثم خرجت إلى المدينة أريد زوجي, ما معي أحد من خلق الله.. حتي إذا كنت بالتنعيم, لقيت عثمان بن طلحة فلم يزل بي, حتي أقدمني المدينة فلما نظر إلى قباء قال: زوجك في هذه القرية.. فادخليه على بركة الله, ثم انصرف راجعًا إلى مكة" تقول أم سلمة: "والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة"(5).
وما كان لهذه النماذج المؤمنة أن تتحمل هذا العناء القاسي, وأن تصبر على هذا العذاب الشديد, إلا بالعقيدة الراسخة التي أشربتها قلوبهم, وأنست بها أرواحهم, واستقامت بها حياتهم، واطمأنت بها جوانحهم. ومن أجل هذا جعل الله سبحانه وتعالى الهجرة سببًا إلى استحقاق الموالاة والنصرة، وجعلها معيارًا يقاس به مدى صدق الأخوة, وعمق الحب في الله- تعالى- فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا﴾ (الأنفال: من الآية 72).
وهكذا تحولت الهجرة إلى ضرورة يعرف بها صدق الولاء وعمق الانتماء، فكلما قوى تعلق القلب بخالقه وانجذابه إلى حبه, انحيازه إلى دينه, وانتصاره لدعوته, زاد إحساسه ببشاعة الباطل, ووضاعة خططه, وحقارة شأنها, وشأن المنشغلين بها والقائمين عليها.
إن الهجرة إلى الله والبراءة من كل أشكال الهزيمة والخذلان، ومن كل صور الجبن والضعف, والتطهر من كل مظاهر المسارعة إلى إرضاء قوى البغي والعدوان, رهبة منهم أو رغبة إليهم, هي السبيل التي لا بد منها, لكي تكون جواز مرورنا إلى ولاية الله لنا ونصره لمنهجنا, وضمان تمكيننا وعزتنا.
إنها الهجرة التي تمثل انقلابًا نفسيًّا, يشمل جوانب النفس الإنسانية جميعها, فجعلها تحسن النظر, وتدرك الفرق بين الحق والباطل, وبين الخير والشر, وبين الطيب والخبيث ، ويمنحها القدرة على أن تحب وتكره. وأن تعرف من تحب؟ وكيف تحب؟ ولماذا تحب؟ وتعرف أيضًا من تكره وكيف تكره, ولماذا تكره؟ وعندما تصل النفس الإنسانية إلى هذا القدر من التميز والوضوح في حبها وبغضها, تكون قد استكملت جوانب الإيمان وهو ما يشير إليه قول رسولنا صلى الله عليه وسلم: " من أحب في الله، وكره في الله فقد استكمل عرى الإسلام"(6).
إن الأمة الإسلامية أحوج ما تكون إلى وحدة ثقافية وفكرية تتوحد من خلالها ميولها واتجاهاتها, ويتحدد على أساسها ولاؤها وحبها وبغضها, كما نرى في تناصر أصحاب الفكر العلماني الغربي في أوروبا وأمريكا وغيرها ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) (الأنفال).
"لقد كانت الولاية بين المسلمين في إبان نشأة المجتمع المسلم إلى يوم بدر, ولاية التكافل والتوارث في الديات، وولاية نصرة وأخوة, قامت مقام وحدة النسب والقرابة.. حتى إذا وحدت الدولة ومكن لها بيوم الفرقان في بدر, بقيت الولاية والنصرة, ورد الله الميراث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم، وجعل الهجرة شرطًا لولاية النصرة والأخوة"(7).
﴿بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ (الأنفال: من الآية 72).
ومن هنا تتبين طبيعة المجتمع المسلم وتتحدد منطلقاته وقواعده. التي عليها, وينطلق منها. إنها ليست علاقات الدم, ولا علاقات الأرض, ولا علاقات اللغة, ولا علاقات الاقتصاد, ليست هي القرابة, وليست هي الوطنية وليست هي القومية, وليست هي المصالح الاقتصادية، إنما هي علاقة العقيدة, وعلاقة القيادة, علاقة التجمع الواحد، فالذين آمنوا وهاجروا, يعادلهم اليوم من ينتقلون نفسيًّا وروحيًّا وإيمانيًّا من حالة الغفلة والضياع والتبعية, إلى حالة الوعي بالواقع, والثقة بالنفس, والاستعلاء بالمنهج الإلهي فوق كل مناهج البشر، دون أن يحول بينهم وبين ذلك حائل, من أرض أو مال أو قوم أو مصلحة، إنهم عند ذلك يمثلون الطليعة المؤمنة المجاهدة المهاجرة, الذين يجمعهم هم إيماني واحد ، وعمق ثقافي واحد ، ويربط بينهم شعور ديني واحد ﴿أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (الأنفال: من الآية 72).
أم الذين عرفوا الإسلام فكرًا, وانتموا إليه وراثةً, واكتفوا منه بالانتساب الاسمي, دون الاقتناع به عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا ونظامًا، دون أن يكون لهم هم إيماني يشعرهم بعمق الأخوة, وحميمة الجسد الواحد، فهؤلاء ليس لهم حق الموالاة والنصرة لأنهم بانعزالهم عن واقع التجمع الإيماني الواحد سيضعون في خضم الأمواج الفكرية, والنظريات السياسية, نظرًا لخفة وزن وضعف كيانهم, وعدم التزامهم بتعليمات الصف الإسلامي الواحد، في مواجهة التجمعات العالمية الأخرى, وفي زمن لم يعد يعترف إلا بالتكتلات الكبرى والكيانات العظمى.
إنني أدعو المسلمين في أرجاء الأرض جميعًا إلى أن ينتقلوا من إسلام الوراثة, والوطن الجغرافي, إلى إسلام العقيدة والولاء وصدق الانتماء وأن يهاجروا من موقع المتفرج على الأمم العاملة المنتجة, إلى موقع المشاركة في صنع مستقبل الأرض.
منطلقين إلى ذلك من عقيدتهم التي لم تعرف الأرض عقيدة أخرى تدانيها كمالاً وقوةً، ومنطلقين من كنوز الله التي ذكرها في الأرض وخصهم بها من بين سائر الأمم. منطلقين كذلك من كثرة عددهم, واتساع أرضهم وتنوع حاصلاتهم، وتوسط موقعهم، وشهاداتهم بهذا الدين على العالمين, ويومها نكون قد هاجرنا إلى الله هجرة نستحق بها النصر والتمكين.
-------------- 1- فقه السيرة - البوطي ص 172 2- لسان العرب لابن منظور جـ6مادة " هجر" . 3- صحيح البخاري جـ4, صـ92, كتاب الجهاد , باب لا هجرة بعد الفتح 4- سيرة بن هشام جـ1 صـ477 . 5- ابن هشام جـ2 صـ112, 113, دار القلم بيروت 6- تاريخ البخاري جـ3 , صـ316, سنن أبي داود , جـ5 , صـ60 . 7- في ظلال القرآن جـ3 صـ1555 ط "7". |
| |
|
nasser عضو متحرك
عدد الرسائل : 46 العمر : 34 المزاج : content نقاط التميز : 182 تاريخ التسجيل : 05/12/2009
| موضوع: رد: أما آن لنا أن نهاجر .. الثلاثاء 22 ديسمبر - 10:11:14 | |
| | |
|
عبد المغيث مدير المنتدى
عدد الرسائل : 1410 العمر : 29 المزاج : متفهم نقاط التميز : 3820 تاريخ التسجيل : 14/11/2008
| موضوع: رد: أما آن لنا أن نهاجر .. الثلاثاء 22 ديسمبر - 10:16:35 | |
| | |
|