الموقف الأوروبي المفاجيء الذي انتصر للقدس الجريحة أثار الكثير من علامات الاستفهام ، خاصة وأنه منذ أحداث 11 سبتمبر ، عمدت إسرائيل لخلط الأوراق وباتت أوروبا أكثر تعاطفا مع مزاعمها بل وسارعت أيضا لوصف حركات المقاومة بالإرهاب .
ورغم أن الإجابة ليست بالأمر البسيط إلا أنها تجد نفسها في عدة أمور من أبرزها الحرب الهمجية الأخيرة التي شنتها إسرائيل على غزة والتي لم يعرف التاريخ لها مثيلا في بشاعتها لدرجة أيقظت ضمير العالم الحر من جديد بل وجاء تقرير جولدستون ليعري وجه إسرائيل القبيح أكثر وأكثر ، وبات قادتها ملاحقون أينما حلوا بتهم ارتكاب جرائم حرب .
هذا بالإضافة إلى حقيقة باتت واضحة كل الوضوح وهى أن حكومة التطرف في إسرائيل غير عابئة بجهود تحقيق السلام بل إنها تسعى للمزايدة على الموقف الأوروبي في هذا الصدد .
ففي مطلع ديسمبر ، حذر دبلوماسي أوروبي من أن قرار الحكومة الإسرائيلية الإخير تعليق بناء المستوطنات الجديدة في الضفة الغربية لمدة 10 شهور هو خدعة إسرائيلية لممارسة الضغوط على الدول الأوروبية لتهجير مزيد من اليهود الأوروبيين للمستوطنات التي يتم إعداد الخطط بشأنها مستقبلا.
ونقلت صحيفة "الوطن" السعودية عن الدبلوماسي قوله إن القرار لا علاقة له بتحسين الأجواء لإجراء مباحثات سلام كما يعتقد كثيرون من المراقبين لأزمة الشرق الأوسط.
وأضاف أن المخطط الإسرائيلي يسير إلى تفريغ مئات البيوت الفلسطينية وسرعة استيطانها بيهود أوروبيين حيث تفضل إسرائيل زيادة أعدادهم مقارنة باليهود القادمين من دول إفريقية أو من الشرق لتمتع يهود أوروبا بالخبرات والكفاءات وقدرتهم على العمل والإنتاج لحصول معظمهم على فرص تعليم عالية مقارنة بغيرهم من اليهود الأفارقة.
وشدد على أن المنظمات اليهودية في دول الاتحاد الأوروبي تمارس اتصالات معلنة وسرية بالأسر اليهودية وتمارس أيضا أعمال الضغط والخداع وأحيانا الابتزاز من أجل إقناع هذه الأسر بالهجرة إلى إسرائيل خلال الأشهر المعلنة ، واختتم قائلا إن اليهود الأوروبيين يفضلون الهجرة إلى دول أخرى مثل أمريكا والمغرب لأنها بالنسبة لهم مناطق هادئة وآمنة مقارنة بإسرائيل.
وبجانب ما سبق ، فإن أوروبا تعلم جيدا أن انهيار عملية السلام بالكامل سينعكس عليها بضرر كبير ويهدد أمنها بسبب قربها الجغرافي من قضايا المنطقة وخاصة القضية الفلسطينية.
ويبدو أن إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس عدم ترشحه للانتخابات المقبلة وتهديده بالاستقالة بسبب تراجع أوباما عن الضغط على إسرائيل بشأن السلام أقلق أوروبا بشدة لأن استقالة عباس تعني انهيار مؤسسات السلطة الفلسطينية وضياع مليارات الدولارات التي ساهم بها الاتحاد الأوروبي من أجل إنجاح عمل تلك المؤسسات بل والرجوع إلى نقطة الصفر في الصراع العربي - الإسرائيلي وما قد ينجم عن ذلك من اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة .
إنقاذ القدس
المسجد الأقصى
واستباقا لهذا السيناريو ، تحرك الاتحاد الأوروبي بسرعة لدعم عباس بل وفاجأ الجميع في ذروة انشغال الفلسطينيين والعرب بانقساماتهم الداخلية ووسط حملة تهويد محمومة في القدس الشرقية المحتلة للإسراع بتنفيذ مخطط "يهودية إسرائيل " بقرار أعاد القدس لبؤرة الأحداث وأكد أنها مدينة محتلة رغم تأكيدات إسرائيل ليل نهار أنها عاصمة أبدية وموحدة للكيان الصهيوني ".
وكان وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي أصدروا بيانا في 8 ديسمبر / كانون الأول أكدوا خلاله أن مدينة القدس يجب أن تكون عاصمة لدولتين : إسرائيل والدولة الفلسطينية المستقبلية وذلك في نطاق تسوية سلمية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
وأكد الاتحاد في البيان رفضه لقرار إسرائيل ضم القدس الشرقية المحتلة ، قائلا :" لن يعترف الاتحاد الأوروبي بأية تغييرات لحدود ما قبل 1967 بما في ذلك ما يتعلق بالقدس عدا تلك التغييرات التي يتفق عليها الطرفان المعنيان ، إذا كان لسلام حقيقي أن يحل في الشرق الأوسط يجب التوصل إلى طريقة من خلال المفاوضات لتسوية وضع القدس باعتبارها عاصمة لدولتين".
ورغم أن فرنسا نجحت في إحباط فقرة في النص الأصلي لمشروع القرار الذي قدمته الرئاسة السويدية الدورية للاتحاد تنص على تأييد جعل القدس الشرقية المحتلة عاصمة للدولة الفلسطينية ، إلا أن القرار في مجمله هو أمر إيجابي جدا في هذا التوقيت الذي يشهد محاولات مكثفة لمحو الهوية العربية والإسلامية للمدينة المقدسة تمهيدا للاعتراف بإسرائيل "دولة يهودية".
ويبقى التساؤل الجوهري : لماذا تحركت السويد لإحباط مخطط إسرائيل وإنقاذ القدس ؟" .
والإجابة تتلخص في دوافع بعضها تاريخي وبعضها الآخر مرتبط بحرب غزة وفضيحة سرقة الأعضاء ، فمعروف أن هناك توترا تاريخيا في العلاقات بين تل أبيب واستوكهولم ، حيث أتلف السفير الإسرائيلي عملا فنيا في صالة عرض باستوكهولم في 2004 بزعم أن العمل وهو عن استشهادية فلسطينية يمجد من أسماهم بالقتلة ، هذا بجانب الحياد الذي أبدته السويد المعاصرة تجاه هتلر والنازية ، وأخيرا فإن تل أبيب تأخذ على استوكهولم انحيازها للفلسطينيين في حين تتهمها السويد بانتهاك حقوق الإنسان .
وبالنظر إلى أن السويد من أكثر الدول الأوروبية احتراما لحقوق الإنسان ، فقد شهدت في الشهور الأخيرة تعاطفا غير مسبوق مع القضية الفلسطينية وخاصة بعد الحرب البربرية على غزة وفي أعقاب تفجر فضيحة سرقة الأعضاء والتي أثارت غضبا عارما في إسرائيل بل ووصل الأمر إلى قيامها بمطالبة استوكهولم بتكذيب الأمر والاعتذار علنيا إلا أن الرد كان هو الآخر بمثابة صفعة جديدة للكيان الصهيوني .
وكانت صحيفة "أفتونبلاديت" السويدية نشرت في 17 أغسطس / آب الماضي تقريراً لمراسلها في الأراضي الفلسطينية المحتلة دونالد بوستروم أفاد فيه بأن جنوداً إسرائيليين قاموا عمدا بقتل شبان وأطفال فلسطينيين لسرقة أعضائهم والمتاجرة بها ، قائلا :" إسرائيل كانت تعتقل شبانا فلسطينيين في الليل وتقتلهم وتستأصل أعضاءهم وتدفنهم بسرية".
وأضاف أنه كان موجوداً في الضفة الغربية عام 1992 عندما جلبت السلطات الإسرائيلية جثة فلسطيني يدعى بلال أحمد غانم وقد قالت عائلته آنذاك إن الجيش الإسرائيلي سرق بعض أعضائه، وسمع بعد ذلك روايات مماثلة من 20 عائلة فلسطينية أخرى تسلمت جثث أبنائها وقد ظهرت فيها آثار عمليات جراحية.
وكشف أنه سعى لتصوير تحقيق وثائقي عن القضية ، غير أن الأحداث الأمنية التي أدت إلى إغلاق المعابر نحو الضفة الغربية وغزة حالت دون ذلك، مضيفاً أنه لم يتمكن من العثور على منظمات إنسانية مهتمة بالقضية.
ولفت الصحفي السويدي إلى أن قرار السلطات الإسرائيلية تشريح جثث الفلسطينيين الذين يسقطون برصاص جيشها غير مفهوم، لأن أسباب الوفاة واضحة ، معتبرا أن هذا الأمر قد يقود إلى إجراء تحقيق دولي فيما وصفه بـ"جريمة حرب" من قبل الجيش الإسرائيلي.
معاداة السامية
وبالنظر إلى أن المقال السابق كشف بعدا إجراميا جديدا لإسرائيل لم تسلط عليه الأضواء من قبل ، فقد جاء رد فعلها عنيفا جدا ، حيث شن وزير خارجيتها أفيجدور ليبرمان هجوما شديد اللهجة ضد السويد، وأشار إلى أنها تتخذ مواقف متطرفة ضد إسرائيل منذ الحرب الأخيرة على غزة ، وانتقد في هذا الصدد صمت نظيره السويدي الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي عن المقال .
وفي السياق ذاته ، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية إيجال بالمور: "هذا المقال يحمل عناصر واضحة من التشهير الدموي ضد اليهود في العصور الوسطى" ، متهما الصحيفة بالتشجيع على جرائم الكراهية ضد إسرائيل .
وأضاف قائلا : "نشعر بأن الحكومة السويدية تستخدم حجة حرية التعبير كذريعة لعدم إدانة معاداة السامية ، نعتقد أن حرية التعبير لا تنطبق فقط على وسائل الإعلام السويدية، بل أيضا على الحكومة السويدية التي عليها أن تعلن موقفا حازما حول تلك القضية التي تشكل معاداة للسامية".
بوسترم يرد
دونالد بوستروم
وفي تعقيبه على الاتهامات الإسرائيلية السابقة ، كشف الصحفي ديفيد بوسترم أن الحكومة الإسرائيلية حاولت جاهدة الضغط على الحكومة السويدية بعدم نشر هذه القضية التى هزت صورتها أمام العالم.
وأضاف فى تصريحات لقناة "الجزيرة" في 25 أغسطس أن الاحتلال الإسرائيلى ينتهك القانون الدولى كل يوم فى الأراضى المحتلة ولا يريد أحد أن يحاسبه أو يكتب عنه.
وأوضح أن إسرائيل حاولت استخدام المقال على اعتبار أنه يمثل معاداة للسامية ، لكن المقال الذى كتبه ليس فيه حرف واحد حول هذه الإدعاءات.
وتابع "إننى أخذت بوجهة نظر كل الأطراف فى كتابة المقال حيث لم أكتف بالطرف الفلسطينى ولكنى ذهبت أيضاً إلى الجيش الإسرائيلى لمعرفة مدى صحة هذه المعلومات التى ثبتت صحتها " ، مشيرا إلى أن الحكومة السويدية كانت على علم بالمقال.
ورغم أن إسرائيل بذلت أقصى طاقتها لدفع السويد للاعتذار ، إلا أنها واجهت رفضا قاطعا وعزت الحكومة السويدية هذا الموقف إلى أن الصحافة الحرة هي أحد أعمدة الديمقراطية السويدية حيث يعود إقرار أول قانون حول حرية التعبير إلى العام 1766.
ونقلت "سفينسكا داغبلاديت" عن رئيس الحكومة السويدية فريدريك رينفيلت قوله في هذا الصدد :" لا يمكن التوجه إلى الحكومة السويدية والطلب منها بأن تخرق الدستور السويدي".
ويبقى رد الفعل الشعبي هو الأهم ، ففي 27 أغسطس / آب ، نشرت صحيفة "سفينسكا داغبلاديت" السويدية استطلاعا للرأي أظهر أن أغلبية السويديين يعارضون قيام الحكومة أو جريدة "أفتونبلاديت" التي نشرت مقال بوستروم بتقديم اعتذار إلى إسرائيل ، وجاء في الاستطلاع الذي شارك فيه أكثر من 24 ألف شخص أن 56% من السويديين يعارضون تقديم اعتذار لإسرائيل .
والخلاصة أن السويد التي تتولى حاليا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي كان لها دور حاسم في فضح جرائم إسرائيل وتسليط الضوء مجددا على قضية القدس الشرقية المحتلة .